هل للأعمال التجارية دستور ؟
لماذا نرى أعمالاً تجارية تصمد لعقود وقرون ؟
٥ رجب ١٤٤٦ هـ
•
استراتيجيات الأعمال

في عالم التشتت والتضاد يبرز التجريد والسرعة كبطل للساحة في جميع قطاعات الحياة، وإحدى هذه القطاعات هو القطاع التجاري وأوهام الثراء السريع والعصامية وريادة الأعمال المستعجلة، فنرى العديد من الأشخاص ينساقون خلف هذه المعتقدات الخاطئة ويسارعون في افتتاح أعمالهم التجارية ويصدمون بالواقع والحقيقة المرة إما بانخفاض الإيرادات المالية أو صعوبات التشغيل اللا متناهية وكلاهما يهدد مشروع الأحلام بالفشل.
لا أقول ما قلت بهدف التخويف وصدك عن الإقدام وتحقيق الأحلام، بل أقوله لأحذرك من الوقوع في الفخ الذي وقع به العديد ممن سبقوك، فللأعمال التجارية "دستور" وقد تكون الكلمة كبيرة ولكنها في الموضع الصحيح، وأعتقد بل أجزم أنك ستوافقني الرأي بعد أن تمعن القراءة.
ما هو دستور العمل التجاري ؟
في اللغة والتطبيق العملي تشير كلمة دستور للقانون والنظام الأعلى الذي لا يمكن تخطيه أو تجاوزه أو كسره إلا ما ندر ولأسباب محددة وواضحة تخدم الهدف الأسمى وهو "البقاء"، وأقرب مثال عليه هو دستور الدولة، فلكل دولة دستور يضمن ترابطها وسير الوزارات والهيئات وكل فرد في الشركة بالشكل النظامي المناسب الذي يضمن بقاء الدولة واستدامتها، وكذلك الحال مع الأعمال التجارية، فإن ما يضمن بقائها على قيد الحياة واستدامتها لعقود بل قرون هو وجود دستور واضح للعمل التجاري يضعه المؤسسون أو أصحاب القرار قبل البدء كوصية واضحة لكل من سيعمل على هذا المشروع التجاري، وكمسمى آخر أكثر شيوعاً لهذه القوانين، يطلق البعض على هذه العملية إسم "استراتيجية العلامة التجارية" ولكن بتفضيلي الشخصي أحب منحها إسم دستور ، والذي يعكس أهمية هذه العملية أكثر.
كيف يتم بناء دستور العمل التجاري ؟
يتمحور دستور العمل التجاري بكل بساطة حول ما سنفعله وما اللذي لن نفعله، و في اختيار لمن سنقدمه وكيف سنقدمه، وماهي الخانة التي سنحجزها في أذهان من سنقدم لهم منتجاتنا، والعوامل المرتبطة بهذا الحجز، ويبدأ تطوير دستور العمل التجاري بعد بناء نموذج العمل الذي يعتبر مرجعاً للدستور، ولكن العجيب في الأمر أنه وبالرغم من أن نموذج العمل هو مرجع للدستور ولكن لا يصح أن يتم تعديل نموذج العمل التجاري دون العودة للدستور، وأن أي تعديل في الدستور يعني تعديلاً إجبارياً على نموذج العمل التجاري, ولبناء دستور واضح لعملك التجاري عليك المرور بالمراحل التالية:
القيم
نعم العديدد من الشركات تضع خانة القيم في نوقعها الإلكتروني وملفها التعريفي منذ البداية ولكن أين هم عن تطبيقاتها العملية ؟
نعم، يجب أن يكون للقيم تطبيق عملي وتأثير واضح على منتجات الشركة، حيث تعتبر القيم المحرك الأساسي ونقطة البداية لتطوير المنتج أو الخدمة، واختيار القيم المناسبة التي ستعمل بها الشركة مسألة حساسة جداً، وإن من أسباب فشل العديد من المنتجات والخدمات وبالتالي الشركات والأعمال التجارية هو التضاء بين القيم والواقع أو عدم وجود قيم من الأساس، فإذا كنا نتحدث عن شركة تويوتا فإن من أبرز قيمها الجودة وذلك ينعكس جيداً على سياراتها التي تعتبر من أكثر السيارات عمراً افتراضياً، وإن كنا نتحدث عن شركة مثل شركة ندى للألبان فإن من أبرز قيمها هو الابتكار ونرى ذلك في منتجاتها المستحدثة على الدوام كاللبن المنكه والزبادي اليوناني الذي كان للشركة السبق في إدخالها للسوق المحلي، وإن من أسوء التطبيقات العملية للقيم هو الإكثار والحشو وعدم التطبيق بل وحتى التضاد في اختيار القيم ذاتها، فتجد شركة تمتلك أكثر من ١٠ قيم العديد منها متضاد ولا يطبق على أرض الواقع، فمثلاً تجد شركة من قيمها الفخامة والتوفر والسعر المتدني وهي أمور لا تجتمع سوياً بالمنطق، فالفخامة تعني السعر المرتفع وندرة التوفر، ومتى كان المنتج ذو سعر منخفض وسهل الحصول عليه يفقد قيمته تماماً وبالتالي لا يعتبر فخماً.
الغاية
الغاية هي السبب والمحرك الرئيسي لبدء هذا العمل التجاري، وغياب الغاية يعني غياب الوضوح والتيه عدم وجود بوصلة تدلنا على التصرف الصائب والوجهة المناسبة، فبدأ عملك التجاري دون غاية محددة يعني أنك تركض في الصحراء دون بوصلة وخريطة ونهايتك هي الموت جوعاً وعطشاً وإجهاداً، وبالتأكيد فإن كل عملٍ تجاري يبدأ بهدف الربح، ولكن وجود غاية أخرى سامية بجانب الربح سيجعل الربح ذاته يزداد، فعندما يؤمن العميل بغايتك سيصبح أكثر ولاءاً وستصبح أنت الخيار الأول دائماً بالنسبة له في مجاله، وكمثالٍ عملي على الغاية، ماهي أول شركة ستفكر فيها إذا كنت تنوي شراء سيارة كهربائية، دعني أخمن… تسلا صحيح ؟
مالذي جعلك تختار تسلا ؟ لأن تسلا كانت تمتلك غاية واضحة في الاستغناء عن عوادم السيارات الضارة بالبيئة، بالتأكيد تسلا هذفها الربح ولكنها أعطتك سبباً مقنعا لترا فيها قائداً لسوق السيارات الكهربائية.
الرؤية
نتيجة للغاية التي قمت بتحددها، ماذا سيصبح شكل العالم عندما تصل لغايتك ؟ هذا هو ملخص الرؤية بكل اختصار، فالرؤية تمنح العميل الأفق الذي يجعله يؤمن بغايتك ويحاول أن يصبح جزءاً منها، والرؤية باعتقادي أنها تتفرع لقسمين يمكنك اتباع أحدٍ منها، القسم الأول هو رؤية العمل التجاري لنفسه بالمستقبل، والقسم الثاني هو رؤية الشركة للعالم في المستقبل، فمن الممكن أن تكون رؤية تسلا على أنها ستكون قائدة قطاع السيارات الكهربائية وأفضل من يصنعها في المستقبل، أو أن تكون رؤيتها تتمحور حول عالمٍ يتنفس به البشر هوائاً نقياً ويعيشون في بيئة صحية، هل لاحظت الفرق ؟
يمكنك الآن اختيار القسم المناسب الذي ترى المستقبل من خلاله، ولكن احذر، لا تكن حالماً بشكل غير منطقي ولا تكن منكمشاً على نفسك كثيراً، فإن وضع رؤية مستحيلة التحقيق مثل أن أصبح أول سوبرمان في العالم أو أول شركة تبني مكتبها على المريخ سيجعل منك سبباً للضحك، والقول بأنك ستصبح مثلاً في المركز الخامس والعشرين في ترتيب أفضل الشركات في مدينتك هو أمرٌ قد ينفر العميل منك ويراك متشائماً جداً ولا تمتلك طموحاً، لذلك كن حالماً ومتزناً في رؤيتك.
المهمة
هي الخطة المعلنة لتحقيق غايتك وجعل رؤيتك واقع، وهي النقطة التي تبدأ منها في تصميم منتجك كونه سيكون محور القصة والشيء الملموس الذي يجعل من قيمك وغايتك ورؤيتك واقعاً، فبالعودة لمثال تسلا فيمكننا التعبير عن مهمتها بأنها ستنتج سيارات كهربائي تغني سكان العالم عن استخدام سيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي، هذه مهمة منطقية جداً تساعد على تحقيق الغاية وبالتالي الرؤية، فإذا كانت غايتي هي تقليل الإنبعاثات الكربونية والمحافظة على البيئة ورؤيتي هي عالمٌ نتنفس فيه هوائاً نقياً ومنتجي هو سيارة كهربائية تقلل من الإنبعاثات الكربونية في العالم أليس كل هذا مقنعاً لك ؟
التمركز
التمركز أمرٌ معقدٌ جداً لأكثر من 99% من أصحاب ورواد الأعمال، ولكن دعني أشرحه لك باختصار، التمركز هو المكانة والصورة النمطية التي تحجزها في أذهان العملاء، لنخرج عن دائرة تسلا قليلاً حتى أمنحك مثالاً أكثر منطقية كون تسلا قائدة السوق وكان من السخل جداً أن تحجز تمركزها في ذهن العميل، لنذهب إلى آبل وسامسونق، ماذا يخطر في بالك عندما تسمع هاذين الإسمين ؟
آبل شركة مبتكرة جداً وتنتج منتجات مميزة وقوية وذات جودة عالية، أما سامسونق هي شركة تنتج هواتف قوية ولكنها عادية أليس كذلك ؟ هذه هي النظرة السائدة لدى الغالبية العظمى من مستخدمي الهواتف الذكية، حتى أولائك الذين يمتلكون هواتف سامسونق أو أندرويد بصفة عامة يرون أن آبل شركة مبتكرة جداً وتنتج منتجات مميزة وقوية وذات جودة عالية، ذلك لأن شركة آبل نجحت في صناعة عملية تمركز قوية جداً، ومثالٌ آخر على ذلك هو مرسيدس وأي علامة تجارية كورية أو صينية أو يابانية أو أمريكية في السوق من اختيارك عزيزي القارئ، حاول أن تستخرج معاني التمركز بنفسك في هذا المثال.
في هذا المقال وكي لاأطيل عليك عزيزي القارئ أردت أن أركز على الجانب الإستراتيجي من الدستور، ولكن هناك جانب بالغ الأهمية وهو امتداد الدستور للعملية التسويقية للشركة أو العمل التجاري وهو الجزء التعبيري من الدستور وسنتحدث عنه في المقالات القادمة، لذلك أنصحك بالاشتراك في نشرتي البريدية التي أرسلها كل أسبوع، وتتضمن مقالات متعمقة في عالم التسويق وتطوير الأعمال تمنحك البناء المعرفي المطلوب كرائد أعمال أو متخصص في عالم استراتيجيات التسويق والأعمال.